انطوى على نفسه وتوفى داخل الإسعاف.. سنوات «فاروق» في المنفى
كتب محمد علي موقع السلطةتنازل الملك فاروق الأول عن عرش مصر للضباط الأحرار فى يوليو سنة 1952، وأجبرته الثورة على التنازل عن العرش لابنه الطفل أحمد فؤاد الثاني، وتم توقيع هذه الوثيقة في قصر رأس التين بالإسكندرية في 26 يوليو 1952، وتشكلت لجنة الوصاية على العرش من الأمير محمد عبد المنعم وبهي الدين باشا بركات والقائم مقام رشاد مهنا إلى أن أعلنت الجمهورية في 18 يونيو 1953، وفقًا لما رواه الدكتور، حسين حسني، في كتاب «سنوات مع الملك فاروق».
أما عن تفاصيل وداع الملك فذُكرت كالتالي، فى تمام الساعة السادسة والعشرين دقيقة مساء يوم 26 يوليو 1952 غادر الملك فاروق مصر على ظهر اليخت الملكي المحروسة وهو نفس اليخت الذي غادر به جده الخديو إسماعيل عند عزله عن الحكم، وكان في وداعه اللواء محمد نجيب وأعضاء حركة الضباط الأحرار والذين كانوا قد قرروا الاكتفاء بعزله ونفيه من مصر، بينما أراد بعضهم محاكمته وإعدامه كما فعلت ثورات أخرى مع ملوكها.
غادر الملك فاروق مصر إلى إيطاليا دون أدنى اعتراض منه على الرغم من صلافة جمال سالم الذى كان يمسك عصاه تحت إبطه، إلا أن فاروق اكتفى بتنبيهه بمقولته المعروفة «أنزل عصاك أنت في حضرة ملك»، مشيرا إلى ابنه الرضيع الملك أحمد فؤاد الثاني، ولقد اعتذر اللواء محمد نجيب عن ذلك، وأدى الضباط التحية العسكرية وأطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة لتحية الملك فاروق عند وداعه.
وفي حوالي الساعة الخامسة والنصف بعد ظهر يوم 26 يوليو، حضرت كتيبة من الحرس الملكي، تصحبها الموسيقى وتحمل علم الحرس الملكي، فاصطفت على رصيف القصر فيما بين باب القصر ومكان رسو «اللنش»، المُعد لنقل المسافرين إلى الموقع الذى كان يرسو فيه «المحروسة»، وعقب ذلك أخذ عمال القصر في نقل ما كان باقيًا من أمتعة المسافرين إلى القارب البخاري الصغير، وقبيل حلول الساعة السادسة بربع ساعة، خرجت الملكة ناريمان والأميرات فوزية وفايزة وفادية.
أما الملك فاروق فخرج وهو ينظر إلى ساعته، وفي الحال أدت الكتيبة لهُ التحية، كما عزفت الموسيقى النشيد الملكي، ثم سار متجهًا إلى ناحية القارب البخاري، ولكنه بعد تجاوز الضابط حامل العلم بخطوتين، عاد مسرعًا وأشار إليه أن يعطيه العلم وتناوله من يده، واحتضنه ثم قبله في تأثر بالغ، وكأنما أودع هذه القبلة رسالة حب ووداع لكُل من يظلهم علم مصر.
وفي مذكراته «الملك فاروق، ملك مصر المنفي»، قال الملك عن وداعه مصر: «سارت المحروسة بهدوء تجاه نابولي، وضحكت مع ابنتي الصغيرة لأبقيها سعيدة، وشعرت وأنا أشاهد ذلك بأنه نوع متميز من الشجاعة، نوع يفوق الميداليات والمكافآت. لم يعد لدي، بأي حال من الأحوال، هذه الأشياء لأمنحه، فقط كان لدي شكري وعرفاني».
عن شعوره، قال في مذكراته: «ارتديت بدلة البحرية الرسمية تعبيراً عن احترامي وتقديري لبحريتي المخلصة ثم استدعيت ضباط قصري المخلصين وطلبت منهم مصاحبة وصيفات الملكة بأسلحة نارية ترقباً لأي مضايقة أو إهانة للسيدات، ومن العجيب أن الجنود اعتبروا المخاطرة بما تبقى لهم من حياتهم العسكرية عن طريق تأدية هذا الواجب شرفا لهم».
وأضاف: «كانوا يعلمون تماما أن هذا العمل لن يقربهم من رؤسائهم الجدد فى الجيش، وذهبت زوجتي وأطفالي إلى المحروسة في الخامسة وخمس وأربعين دقيقة، ثم توجهت إلى رصيف الميناء حيث اصطف حرس القصر وحراسي السودانيون في وضع انتباه فتفقدت آخر قول شرف وقمت بتحية العلم ووقفت انتباها عند عزف النشيد الوطني»
وأضاف: «رحبت بنا إيطاليا فورًا ووفرت لنا ملجأ، قدموا لنا أيضًا طيبة وود وحراسة من رجال الشرطة صباح ومساء وضعت تحت تصرفي. وبدأنا نحن أن نبحث عن منزل قرب روما، لنتعلم أنا وعائلتي المعيشة كأشخاص عاديين، ربما باستثناء 300 صحفي من حول العالم الذين حاصرونا فورًا».
وأكمل: «تجمع الصحفيون على رصيف الميناء، وتم وضع حاجز لمنعهم من الصعود على متن (المحروسة). كانوا لا يبعدون عنا بأكثر من 40 ياردة. ولأتجنب الدخول في هذا التحدى، جعلت العبارة الصغيرة التي ترحل إلى كابري (الليندا) تأتي بجانب (المحروسة) وقمنا بنقل أمتعتنا إليها، وشاهدت الصحافة كل هذا والتقطت العديد من الصور.
وتابع: «وبمجرد وصولنا إلى كابري حاصرنا الصحفيون بكل ا1لطرق والأجهزة التي يستطيع المال أن يوفرها. كاميرات بعدسات تليسكوبية كالمدافع كانت توضع أعلى أسقف المنازل البيضاء المتهالكة، وكذلك برج الكنيسة، حول الفندق الذي نزلنا به، احتشد الصحفييون في الشارع والحدائق المجاورة. مكثوا في نفس فندقنا، الصالة، سائقون إيطاليون مأجورون استعدوا خلف عجلات قيادة دستة من السيارات الكبيرة في انتظار أول حركة لنا. الكاميرات التلسكوبية كانت موجهة ناحية شبابيك غرفنا، كان علي أن أحذر بناتي ألا يفتحوا شبابيكهن، وألا يخرجن إلى الشرفات بقمصان النوم. ترصد الصحفيون على السلالم وفي الطرقات على أمل أن يلمحوني».
وهُناك عاش فاروق مع زوجته وبناته الثلاث، كان الذهول مُسيطرا على أفراد العائلة وأخبرهم أنه سعيد لوجودهم معه، وتقول ناريمان: «كان منطويا على نفسه لمدة شهرين داخل الفندق»، ولم تعُد الأمور السياسية تشغل الملك فاروق بل العائلية، أصبحت مصر بالنسبة للملك فاروق وطن الذكريات الذى كان يبتعد مع مرور الأيام، انتزعت صورة من الدوائر الرسمية، وطُبعت طوابع جديدة، وسُحبت صورته من على أوراق العملة.
كانت آثار الملكية تُمحى يومًا بعد يوم، وأصبح السهر هو وسيلة الهرب من الواقع المرير، وفي ظل هذه الظروف، توترت العلاقة بين الملك فاروق والملكة ناريمان، حتى طلبت الطلاق والعودة إلى مصر، بشرط احتفاظ الملك بابنه، وبالفعل حصلت على حكم الطلاق في فبراير 1953.
وسبَق أن دوَّن الكاتب الصحفي، عادل حمودة، فصلًا عن ليلة وفاة الملك فاروق، قائلًا: «لقد انكبّ الرجل فجأة على المنضدة مغشيًا عليه، بعد أن شعر بضيق في التنفس، أدى إلى احمرار وجهه، ودفع بهِ إلى أن يضع يدهُ على حلقه»، وتم استدعاء الإسعاف التى نقلته سريعًا إلى مستشفى «سان كاميلو»، وهو الأقرب للمطعم.
لم تتمكن الحقن التى أعطاها الطبيب للملك في سيارة الإسعاف لإنقاذ الوضع، فقد تُوفى الملك فاروق داخل سيارة الإسعاف، قبل أن تعبر بوابة الدخول إلى المستشفى، حيث أشار تقرير الأطباء الإيطاليين إلى أن رجلًا بدينًا مثل الملك فاروق يعاني من أمراض ارتفاع ضغط الدم وضيق الشرايين من الممكن أن يموت بسبب الإفراط في تناول الطعام.
بعد فترة من وفاة الملك فاروق، أثارت اعتماد خورشيد فى كتابها أن الملك السابق مات مسمومًا بسُم الاكوانتين على يد ضابط المخابرات المصرى، إبراهيم البغدادى، وحينما حلّ البغدادى ضيفًا على المذيع محمود فوزي، نفى الرواية، إلا أنه لم يبرر سبب التحاقه بالعمل كجرسون فى مطعم «إيل دى فرانس» قبل يوم واحد من وفاة الملك فاروق.
ومن المعروف أن الملك السابق دُفن أولًا فى مقبرة «فيرانو» بالقرب من محطة القطار الرئيسية فى روما، ثم أُرسل جثمانه إلى القاهرة بعد وساطة من الملك فيصل الذى لوّح باستقدام جثمانه ليُدفن فى المدينة المنورة، وجاء فى صيغة موافقة الحكومة المصرية على دفن فاروق فى مصر: «إن السلطات المسؤولة فى الجمهورية العربية المتحدة قد وافقت على طلب تقدمت به أسرة فاروق- ملك مصر السابق- لكى يُدفن فيها. وإن هذه الموافقة قد صدرت تعبيرًا عن سماحة الشعب فى الجمهورية العربية المتحدة ورحابة نظرته الإنسانية، فإن أرض مصر التى ضاقت بفاروق ورفضته ملكًا تتسع له أمام خالقهم الذى يملك وحده بعد الموت حساب خطاياهم».