”دون كيشوت المصري”.. الباحث عن الأخلاق
كتب أحمد أبو الفتح موقع السلطة«الشاويش طلبة» الذي تحدى الأوامر العسكرية لينقذ صديق عمره عنتر «الحصان».. «أبو العلا البشري» الذي أخذ على عاتقه قيادة حرب لنصرة القيم والمبادئ حتى ولو حاربه أقرب الأقربين..
«دون كيشوت» المصري الفارس الذي يحارب طواحين المفاهيم والقيم الخاطئة التي استفحلت في مجتمعنا بحثًا دون ملل أو كلل عن «المدينة الفاضلة»، هذا هو الدرس المستفاد الذي رسخه محمود مرسي في أدواره دفاعًا عن القيم التي بات الكثير منها الآن ذكرى ماضية.
درس محمود مرسي في كلية الآداب قسم الفلسفة، مما أثر على نظرته للأدوار التي تنمي المبادئ والأخلاق، ثم حصل على بكالوريوس السينما بباريس ولندن، وعمل في أوائل الخمسينيات في إذاعة لندن مخرجًا عام 1956 ثم انتقل إلى التليفزيون كمخرج عام 1963، وفي عام 1964 عمل مدرسًا للتمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية، قدم برامج فنية وثقافية كما قدم برنامجًا مميزًا عن المسرح العالمي هدف من خلاله إلى تطوير التذوق الفني لدى جمهور المستمعين.
من مواقفه التي توضح أنه ليس ببعيد عن مبادئه التي يحاول ترسيخها من خلال أعماله، كان موقفه خلال عمله بإذاعة الـBBC البريطانية القسم العربي، فحين وقع العدوان الثلاثي على مصر خرج محمود مرسي على مستمعيه على الهواء مباشرة باستقالة علينة من وظيفته اعتراضًا على العدوان الذي شاركت فيه بريطانيا على مصر، قائلا : "إن هذه هي آخر حلقة أقدمها في هذه الإذاعة حيث إنه لا يمكنني أن أعمل أو أقيم في دولة تشن عدوانًا على بلادي وتلقي بقنابلها على أهلي في مصر ولتلك الأسباب أقدم استقالتي على الهواء وسأعود إلى بلدي أقاتل بجانب أهلي أعيش معهم أو أموت معهم".
حاول محمود مرسي أن يكون لفنه رسالة يحاول بما أوتي من مهارة التمثيل وقدرة تفوق الطبيعة في معايشة الشخصية، أن يوصلها للمشاهد وظهر هذا جليا في معظم أعماله سواء «الرجل والحصان» أو «أبو العلا 90» أو «الشحات» أو «الجسر».. أكثر من 50 عملًا فنيًا كانت ومازالت بصمة لا تنسى في تاريخ الفن المصري.
وعن قناعته الشخصية التي حاول أن يسبغ بها أعماله الفنية، يتذكر سمير العصفوري المخرج المسرحي، أحد مواقفه مع الفنان محمود مرسي عقب نكسة 1967 بأيام، حيث يقول: «لقد قرر محمود مرسي في ذلك الوقت عندما كان مديرًا للمسرح الحديث تقديم مسرحية (مأساة الحلاج) وقال يومها (إذا سقطت المسرحية في ظل الظروف الحالية فلنسقط وقوفًا وبشرف) ولم تمض أيام حتى تم عزله من إدارة المسرح الحديث».
«عتريس» الطاغية الساعي إلى فرض سيطرته على القرية وعلى قلب «فؤادة»، في «شيء من الخوف».. لا يستطيع أحد أن يتحدث عن محمود مرسي ولا يذكر أدوار الشر التي كان لها نصيب في حياته الفنية وقد أجاد فيها، ففي عام 1962 عُرض على مرسي دور في فيلم «أنا الهارب» ووافق على الدور رغم كم الشر الذي تمارسه الشخصية في الفيلم، وظن وقتها أنها المرة الأولى والأخيرة التي يقدم فيها دور الشرير، ولكنه أصبح نموذجًا جديدًا للشرير على شاشة السينما، وأصبح دوره السينمائي الأول محور اهتمام الصحافة والنقاد الذين أشادوا بموهبة صاحبه، وذوبانه في الشخصية التي قام بها بشكل مميز ينم عن مدرسة جديدة، خاصة فيما يتعلق بأدوار الشر.
وأجاد «مرسي» بعد هذا في 4 أدوار ارتدى فيها عباءة الشرير ولكنه قدمها بأداء مميز عن بعضها البعض، حيث قدم «الباب المفتوح» مع فاتن حمامة، «المتمردة» مع صباح، «الليلة الأخيرة» مع أحمد مظهر، «أمير الدهاء» مع فريد شوقي.
ولا يغيب عن الممثل الرائع، أيًا كانت الشخصية، الجوهر الإنساني الذي حاول دومًا أن يظهره كي يحولها إلى كيان حقيقي بصوته وتعبير وجهه كانه يخلط بين الرقة والقسوة والليونة والعنف، في آن.
عُرف عن محمود مرسي أنه زاهد في التحدث إلى الصحافة أو الظهور في الإعلام، وقال عن نفسه في ذلك: «أنا لست من هواة الأحاديث المنشورة ولا أفضلها لأن الكلام فيها دائمًا مكرر ومعاد والإجابة فيها دائمًا لا تتغير، ثم ماذا هناك من جديد لأقوله؟! واتصال النجم أو الفنان بجمهوره يأتي عن طريق العمل في المقام الأول، ذلك الاتصال هو حوار على المستوى الروحي والعقلي والوجداني، وأنا لم أقاطع الجمهور لأن الفنان ليس بمقدوره أن ينعزل عن فنه أو جمهوره ثم أني إنسان قبل أن أكون فنانًا، وأنا واحد من هؤلاء الذين لا يجيدون التحدث عن أنفسهم.
تاركًا لنا ثروة لا تنضب من الإبداع.. رحل عن عالمنا الرائع محمود مرسي في مشهد نهاية حزين لفيلم رسخ فيه القيم والمبادئ والمثل العليا.. ولفظ أنفاسه الأخيرة متأثرًا بهبوط حاد في الدورة الدموية، ونفذ ابنه الوحيد «علاء» وصية والده بأن يدفن بمقابر الأسرة بـ«المنارة» شرق الإسكندرية، دون ضجيج إعلامي.